الأربعاء، 6 فبراير 2013

دور العامل الاجتماعي في تكون الشخصية



تحت تأثير دوركايم حاولت المدرسة السوسيولوجية الفرنسية المعاصرة أن تفسر بواسطة سيكولوجيا اجتماعية كل التمظهرات عند الإنسان التي تنم عن نشاط أسمى من النشاط الحيواني : الروح النقدية، الذوق الإستطيقي، المعنى الأخلاقي، الشعور الديني، كل هذه الأشياء ليست إلا صدى أو انعكاسا، في الوعي الفردي، للحياة الروحية للجماعة، وحاصل القول، إذا كنا أشخاصا، فإن الفضل يرجع إلى هذه المشاركة في الوجدان، في الفكر وفي إرادة الروح الجماعية.
ضد هذا التصور، كان من السهل التأكيد على أن الحياة في المجتمع لا تكفي لأنسنة الإنسان:فالنمل والنحل، قبل ظهور الإنسان على الأرض،عاش حياة جماعية نالت إعجاب علماء الحشرات،ونحن لانرى بأن هذا النمط للوجود كان ملائما  لنموه الفردي أكثر من نظام الحياة الأكثر استقلالية عند الثدييات أو الطيور.إذ يتوجب علينا أن نتعرف في الإنسان على ملكة أو سلطة خلقية تميزه عن الحبوان : هذه السلطة هي العقل الذي نلحقه بالروح التي تعتبر وظيفتها الجوهرية هي التفكير ، بينما ليست للحيوانات غير روح تعيش وتحس بها، وهي لا تستطيع أن تتخذ وعيا مفكرا فيه بما خبرته أو بما تفعله.
يبقى مع ذلك على الأقل القول صحيحا بأن الحياة الجماعية تلعب دورا يكتسي أهمية من الدرجة الأولى في تشكيل الإنسان على مستوى بروز ونمو الملكات التي تجعل منه شخصا.
persona يدل لفظ
في المسرح الروماني على القناع الذي يرتديه الممثلون، وهو يشير إلى الشرط الاجتماعي أو أيضا إلى السلوك الأخلاقي للشخوص الذين يعتلون الخشبة في مشهد معين: عبيد أم أحرار، مخمورون أم بخلاء، أرامل أم محظيات...وظيفة قناع الممثلين هذه هي التي حددت معنى كلمة الشخص.
في اللغة المتداولة يحتفظ بكلمة الشخص لتطلق على الكائنات المفكرة وتعمم على من يحمل صفة ما هو أخلاقي  في المجموعات البشرية : ذلك أن نقابة أو صداقة ما تعتبر بوصفها تملك شخصية أخلاقية.والفيلسوف لم يفعل شيئا آخر غير تعميق هذا المفهوم المتضمن داخل الحس المشترك بتحديد السمات المميزة للإنسان، ومن ثم تحديد العناصر المكونة للشخصية. وهي قابلة لأن ترجع إلى عنصرين: التفكير الذي يتيح الوعي بالذات، والحرية التي تمنح إمكانبة التحكم في الذات وتفضي إلى المسؤولية. وهكذا نستطيع أن نعرف الشخص بالتعريف الآتي: كائن واع بنفسه  وهو سيد أفعاله.
إن الشخصية هي إذن سمة الفرد الذي تحققت فيه الشروط الأساسية لتكون شخصه: وهذا هو معنى هذه الكلمة في اللغة الفلسفية. لكن في اللغة الإصطلاح المتداول يعد الشعور بهذا اللفظ مختلفا: إذ سنقول عن فرد متواضع معين بأنه ذلك الذي ليست لديه أية شخصية،فلا يعتبر الناس أشخاصا إلا من يتميزون عن الأغيار بسمات مميزة وهم يتحددون بوصفعم شيئا آخر عدا مجرد إعادة إنتاج نمط سائد. باختصار ، فالشخصية، بالمعنى الشائع،هي سمة الفرد التي تحمله فوق المتوسط من خلال خصائص عليا أو عن طريق أصالة ذات نوعية رفيعة .
يمارس المجتمع تأثيره على الإنسان، وهو يساهم في تكوين الشخص فينا وفي منحنا شخصية معينة بالمعنى الفلسفي.لكنه يساهم أيضا في تنمية الشخصية فينا بالمنعنى العامي للكلمة، أي أنه يجعلنا نتبع نمطا يميزنا عن الآخرين ويحددنا بالقياس إليهم.
أن يكون المرء شخصا ،كما قلنا من قبل، أمر يرتكز على الوعي بالذات وعلى أن يكون سيد نفسه، وأفعاله. فما هو دور المجتمع في هذا الوعي بالذات وفي اكتساب هذا التحكم في النفس ؟
إذا كان الإنسان قادرا على التفكير في نفسه، ومن هنا، يأخذ في حسبانه موقفه الشخصي في مختلف ظروف وجوده،وطريقته المعتادة في الفعل ورد الفعل، فذلك لأنه نشأ بهذه القدرة، لولا أن هذه القدرة لم تكن قد تنامت بعد، فخارج المجتمع كان سيبقى على حالة القدرة الأصلية الصرفة.
نحن نعلم ذلك، فالإستبطان ليس سهلا مثل ملاحظة الآخرين، كما أننا أيضا ، في الغالب، نعرف بأن فكرة عنا كونها أحد ما ممن نعيش معهم، وليست العودة إلى الذات، هي التي تسلط الضوء على غموض فكرنا أو إرادتنا العميقة: إذ أن الإستبطان يأتي لكي يراقب الإكتشاف الذي كان حاصلا من قبل.، ففي معظم الأحيان لا يكتشف الإستبطان أي شيء.على هذا النحو، فإن ملاحظة صديق أو عدو و نظرة أو نظرة ساخرة أو هز الكتفين أمور تخطرنا بتفاهة الأسباب التي بواسطتها نتطلع إلى تفسير سلوكنا وتجعلنا نكتشف في أنفسنا مقاصدنا الحقيقية
وفي الحقيقة فإنه من الصعب علينا أن نعطي انطباعا كليا عن أنفسنا وعن قيمتنا.فبالنسبة إلى أي تقدير ضمن هذا النطاق، ينقصنا التحصيل الضروري.إن الأنا الذي نراه، بالفعل، هو الأنا الحاضر، وليس الأنا الذي عاش على امتداد حياتنا،إنه أنا ملموس الذي بالنسبة إليه يرتد الراهن إلى ماضي أصبح جميلا بفعل الخيال، وإلى تمثل عن مستقبل  نحلم بأنه سيكون زاهرا.وحدها الجماعة التي نعيش بين ظهرانيها تستطيع أن ترى واقع ما نحن عليه مع تحصيل كاف  لتكوين حكم كلي: الطريقة التي تعاملنا بها  والحالة التي تضعنا فيها،مؤشران يكشفان عن طبيعتنا ، ومن هنا فقط نتخذ الوعي الأوضح بقيمتنا. 
من هنا كذلك نجد أنفسنا مدفوعين إلى تطوير ذواتنا، وتقدير أنفسنا.إذ يصعب علينا، بالفعل، أن نقبل مرتبة أدنى.ولكي يكون الحكم علينا مرضيا وللحصول على مرتبة أفضل في الوسط الذي نعيش فيه،نبذل مجهودا لقمع الميول الطبيعي إلى اللذة المباشرة، كمانسعى إلى محاربة الكسل الموجود فينا، مثل ذلك الذي يظهره لاعب لكرة القدم يستعد لخوض مقابلة حامية الوطيس: فالإنسان الذي كان عبدا للمتعة الآنية، اكتسب القدرة على التحكم في ذاته.     
إن الإنسان يحقق حدا أدنى من التحكم في الذات الذي تفرضه الجماعة على أعضائها، ذلك أن الممنوعات تجعله يتخذ الوعي بمسؤوليته،ومن ثم، بالحرية التي تفرضها هذه المسؤولية، فالعقاب أو التهديد بالعقاب يجعل الطفل يعي بالقدرة على الإختيار ويدفعه إلى ممارستها في سن يكون فيها لايزال مرنا وقابلا للتربية بسهولة.
هكذا يقوم المجتمع بتسريع ظهور سمات عند الفرد تجعل منه شخصا : الوعي والتحكم في الذات. فهو يقويها: إن الطفل الذي نشأ في مجتمع توصل إلى درجة عالية من التحضر يعرف نفسه ويحكم ذاته أفضل من البالغ في مجتمع بدائي.وإذا كان العامل الاجتماعي لا يخلق الشخصية، فهو شرط ضروري لتنميتها.
بمساهمته في أن يصنع من الفرد شخصا،يؤثر المجتمع بعد ذلك في الفرد بطريقة تجعله يتخذ لنفسه شخصية فريدة، يمنحها السمات التي تشكل هويته الخاصة.بحيث أن فعله يظهر من خلال شكلين متعارضين : بقدر ما يسعى إلى تميز كبير، بقدر ما يبحث، عكس ذلك، عن الوحدة، أو عن " الاندماج" طبقا لعبارة هربرت سبنسر
إن الحياة الجماعية تميزنا عن بعضنا أولا بجعلنا ننشأ في وسط محدد.فنوع الحياة الذي عشناه في الطفولة، الأفكار التي كوناها لأنفسنا والأمثلة التي شهدنا عليها ، كل هذه الأشياء تترك فينا بصمة عميقة:فنفس الطفل سيكون مختلفا حينما سيكبر،بالنظر إلى كونه تربى على يد أسرة ما ألمانية كانت أم فرنسية.كما أن طفلا ما إذا كان أبوه عاملا ولا يملك أي نصيب في الثقافة،إذا بلغ سن الرشد ستكون شخصيته مختلفة عن شخصية طفل آخر نشأ في وسط متعلم واستفاد من كل وسائل التكوين البشري التي تسمح بها الثروة    
فيما بعد يصبح التميز المكتسب مثبتا ومتحققا بصورة مادية في اخنيار مهنة معينة.وبالفعل، فإن الحياة الجماعية تؤدي إلى تقسيم الشغل،وكل مجتمع متطور إلا ويقترح على أعضائه وظائف جد متنوعة تفرض مهارات مختلفة جدا.وبالتالي فالأفراد الذين لهم أذواق متشابهة تجمعهم المهنة،وهكذا تنشأ علاقات جديدة خلالها يتزايد تقارب هذه الأذواق أكثر فأكثر.وفضلا عن ذلك،فإن الانشغالات المهنية التي تملأ معظم أوقات حياتنا الواعية تعدل بصفة عميقة ونهائية عقليتنا، وحتى موقفنا في بعض الأحيان ومظهرنا الخارجي 
وفي الأخير،وعلى امتداد حياتنا،تجعلنا الجماعة متمايزين عن طريق ردود أفعالها حيالنا، وملمحنا الفيزيقي لا يحدد إلا قليلا شخصيتنا.فالجماعة تؤثر على شخصيتنا الأخلاقية.فنحن لا نسطيع أن نزيد في قامتنا ولو بمقدار ضئيل، لكننا نستطيع دائما أن نغير تمظهرات حياتنا الداخلية بحسب المتطلبات ، ومن خلال ذلك تغيير حياتنا الداخلية نفسها.وباختصار فإن المجتمع هو الذي يمكننا من الوعي بوضعيتنا داخل الوسط الذي نعيش فيه. ولا ينبغي الاعتقاد بأن المجتمع يسعى إلى ابراز تعارضات كبيرة بين الأشخاص ، فهو يتطلع إلى التوحيد الضروري للحياة الجماعية أكثر فأكثر.
يبدو أن الجماعة تمارس فعلها  التوحيدي الأكثر فاعلية ونجاعة على الفرد خلال فترة التكوين.فإذا كانت الأسرةتجعلنا متمايزين،فهي تشكلنا وتوحدنا أيضا، وعليه فإن النمط الأسري لا يبارحنا: طريقتنا في النطق،لغتنا، حالتنا والمبادئ التي ستصبح عتادا لأفكارنا الشخصية كلها يرجع فيها الفضل الأسرة.وحينما يبدأ الطفل يفلت من تأثير الأسرة فإن هذا المجتمع يمارس عليه فعلا مباشرا أكثر في عملية التكوين ،مختزلا التعليم العمومي إلى نوع من  الخدمة العسكرية وخلاله يحدث انصهار بينمختلف الأقسام على مستوى الفروق الناتجة عن المواهب الطبيعية وعن التربية الأولية.
في الختام يمكن التساؤل:أيهما الأكثر أهمية في تأثير المجتمع على الفرد، فعل التمييز أم فعل التوحيد.؟يبدو  أن ما ينجم عن مختلف أفعال الجماعة على الأفراد هو التوحيدليس المهم هو أن نتوفر على أفكار لم تخطر في ذهن أحد من الناس،أو مشاعر غريبة،أو أذواق مختلفة تخص فقط مجموعة صغيرة من ذوي الاطلاع،بل على عكس ذلك، يجب أن نتطلع إلى المعايير العامة:معرفة الحقيقي، حب الخير والجميل .إن صراع الأفكار في مجتمع متعلم يجب أن يساهم بدور وافر في إقصاء  ما يوجد لدى البعض من أعضائه، مما هو جد شخصي،أي ما هو أقل تناسبا مع المثال الانساني إذا تكلمنا باللغة العادية.هكذا ستنشأ شيئا فشيئا الشخصية الحقة ،تلك التي ترتكز على رؤية كل شيء بوضوح وتحقيق نمط للشخصية يستلهمه كل إنسان بصفة لا شعورية.
    .      

بقلم : الأستاد محمد الخشين
ساهم في نشر الموضوع و لك جزيل الشكر!



Digg Technorati del.icio.us Stumbleupon Reddit Facebook Twitter

حكمة اليوم

Ping your blog, website, or RSS feed for Free