- جواب الفقهاء المالكية عن السؤال:
ولما ظهر الإمام مالك رحمه الله تعالى واشتهر علمه وفضله، مالوا إليه دون غيره من علماء المدينة، واتخذوه قدوة وأسوة لهم، والسر في ذلك يكمن في كونه رحمه الله تعالى جمع من الأوصاف والفضائل ما فيه قد أربى على غيره من علماء عصره، هذا هو المقصد الأصلي الذي من أجله تبنى المغاربة المذهب المالكي، وهو أمر واضح جلي، صرح به رواد المذهب الأوائل، يشهد لذلك ما ذكره الإمام القاضي عياض رحمه الله تعالى من قصة السائل المغربي الذي سأل الإمام عن مسألة فقال له: ما أدري ما هي؟ فقال الرجل: يا أبا عبد الله! تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك.
فهذا المغربي تلميذ الإمام أفصح عن السبب الحقيقي الذي دفع المغاربة إلى التمسك بالمذهب، وانتحالهم له (ليس على وجه الأرض أعلم منك)، ويقول القاضي عياض رحمه الله في وصف تلامذة الإمام من أهل الأندلس: وأما أهل الأندلس فكان رأيهم منذ فتحت على رأي الأوزاعي إلى أن رحل إلى مالك زياد بن عبد الرحمن، وقرعوس بن العباس والغاز بن قيس، ومن بعدهم، فجاءوا بعلمه وأبانوا للناس فضله، واقتداء الأئمة به، فعرف حقه ودرس مذهبه.
- قانون الاقتداء والتقليد
هذا هو الكلام العلمي الصحيح الذي ينبغي أن يعتمد في الجواب عن سؤالنا: لماذا اختار المغاربة المذهب المالكي؟ وهو ما درج علماء الغرب الإسلامي قاطبة على ذكره وإيراده، فهذا الإمام القاضي عياض رحمه الله تعالى افتتح كتابه ترتيب المدارك بحصر الأئمة المقتدى بهم، ثم بين أن الإمام مالكاً رحمهم الله كان أولاهم وأحقهم بالاقتداء، معتمداً في ذلك على حجج ومرجحات.
تميز هذا المذهب بخصائص موضوعية هامة تجلت بالخصوص في سعة أصوله وشمولية قواعده، مما منح هذا المذهب قدرة على استيعاب المتغيرات وضبط المستجدات.. وكان لدخول موطأ مالك بن أنس إلى المغرب على يد عامر بن محمد بن سعيد القيسي على عهد المولى إدريس الثاني الأثر البارز في نشر المذهب، واتخاذه مذهبا رسميا للدولة. كما كان لتأسيس جامع القرويين سنة (245هـ) كمركز إشعاع علمي وثقافي الفضل في تطوير وترسيخ دعائم وأركان المذهب، وإعداد نخبة من العلماء خدموا المذهب تأصيلا وتفريعا وتنظيرا..
ومن ثم أضحى هذا المذهب أساس البناء الحضاري والثقافي لأهل المغرب، إضافة إلى عقيدته الأشعرية وتصوفه السني، فكان المنهج التربوي والتعليمي يستوعب هذه الركائز والدعائم، سواء كان ذلك على مستوى التلقين التعليمي أو على مستوى التصنيف الفقهي والتأليف الأصولي.
وطبيعي أن يطرح هذا الاهتمام غير العادي والإقبال الواسع على هذا المذهب من الأندلسيين والمغاربة على حد سواء، أكثر من سؤال، ويضع أكثر من علامة استفهام عن سبب هذا التمسك الكبير بهذا المذهب، ومكامن قوة هذا المذهب و مدى مرونته وسعته..
لأجل ذلك اهتم العلماء قديما وحديثا بهذا الموضوع، وحاول كل منهم رصد أهم تلك الأسباب. ومهما تشعبت تلك الآراء واختلفت مناحيها، فإن للباحث أن يصنفها بحسب الرؤية التي انبنت عليها والأساس الذي قامت عليه إلى:
- أولا: أسباب ذاتية ترجع إلى شخصية مؤسس المذهبثانيا: ملاءمة المذهب لطبيعة أهل المغرب، ومساندة السلطة للفقهاء المالكيةثالثا: الأسباب التي ترجع إلى خصائص موضوعية ومنهجية تميز بها المذهب المالكي رابعا: الأسباب التي ترجع إلى النقل في انتشار المذهب المالكي ورسوخه في ربوع المغربمنزلة المذهب المالكي من بين المذاهب الأخرىبعض المصنفات التي تحدثت عن أسباب دخول المذهب المالكي إلى المغرب الإسلام
ويقول الإمام أبو محمد الشارمساحي: أرجحية المذاهب تعتبر بقوة أصولها، وسلامتها من الخطأ وبعدها، ومالك رحمه الله الفائز بقصب السبق في ذلك وما قرره المالكية هنا اعترف به أئمة كبار من مختلف المذاهب الفقهية الأخرى. وشهاداتهم بذلك مشهورة ومستفيضة.
- شهادات الأئمة بصحة أصول المالكية
شهادة الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة:
قال الإمام الشافعي: ذاكرت محمد بن الحسن يوماً فدار بيني وبينه كلام واختلاف، حتى جعلت أنظر إلى أوداجه تدر وتنقطع أزراره، فكان فيما قلت له يومئذ: نشدتك الله هل تعلم أن صاحبنا - يعني مالكاً خ كان عالما بكتاب الله؟ قال: اللهم نعم. قلت: وعالماً باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: اللهم نعم، قال: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء تقيس.
شهادة الإمام الشافعي:
قال رحمه الله: أما أصول أهل المدينة فليس فيها حيلة من صحتها. وأخرج البيهقي عن يونس بن عبد الأعلى قال: فاوضت الشافعي في شيء فقال: والله ما أقول لك إلا نصحاً، إذا وجدت أهل المدينة على شيء، فلا يدخلن قلبك أنه الحق، وكل ما جاءك وقوي كل القوة ولم تجد له أصلاً بالمدينة فلا تعبأ به، ولا تلتفت إليه.
وقال الراعي تعليقاً على الكلام السابق: ولما أورد ابن الخطيب (الرازي الشافعي) هذا لم يجد بداً في مسلك الإنصاف من أن يقول: وأقول: وهذا تصريح في تقرير مذهب مالك خ رحمه الله خ وإن كان الشافعي لم يذكر في كلامه مذهب مالك، وإنما شهد بالصحة لما عليه أهل المدينة، وزيف ما سواه. وبهذا الوجه احتج الشافعي على محمد ببن الحسن في ترجيح علم مالك على علم أبي حنيفة حين تناظرا في ذلك كما تقدم .
المصدر : 1 ، 2
.